من يحكم مصر.. محمد علي أم الجارية

در ناشد: عندما يتخذ كل مكانه علي خشبة المسرح، أو أرض الحياة، تبدأ الشخوص في التحرك مقتربة بعضها من بعض ويحدث ما يشبه الهجوم عليه من وجه التاريخ من ناحية، ومن الواقع الذي يتلون في أشكال مختلفة تلتصق به كل الالتصاق من ناحية أخري ثم يظهر المؤرخ الصادق الذي يزاوج بين الطرفين بدون انحياز أو هوي.. ولعل اسم محمد أبوالعلا السلاموني، نجح في ذلك، فهو يؤرخ فنياً ما يرضي الحقيقة والهدف الأسمي نحو ذاكرة لا تقوي علي الانحناء أو الموت.

في مسرحية »رجل القلعة« نري أبوالعلا السلاموني يرصد أعنف حالات الحاكم القوي تطارد لحظات ضعفه و سقوطه ومحاولاته للنهوض.. يفيض الكاتب في وصف المتع ومظاهر البذخ الذين حملتها إليه المنصب بذلك أنه انفصل كلية عن ماضيه، ولكن كيف يتسني لمن يمتلك الذاكرة التواصلية في شدة أنه يبتر الماضي من جذوره داخل نفسه؟ وأفاق بطلنا ليطلب العودة إلي انقاذ نفسه.

هكذا وصل بنا تصاعد الحوار السريع الساخن إلي الإعلان عن موت عصر بموت زعيمه الصارم الذي شاء أن يسلك الناس معه وفق نموذج محدد في ذهنه معتمدا علي مهارته في لعبة الشطرنج التي لم ينهزم فيها قط.. فما كان من الناس المحيطين به إلا أن قاموا بدور الممثل والمهرج معاً. فلما مات ومات معه عصره المنضبط وفق نموذجه.. انفلت كل شىء، وأصبح كل واحد وشطارته وكل واحد يلعب علي مزاجه..

وبهذا يسدل الستار علي هذا المشهد الطويل المثير لينفتح علي المشهد قبل الأخير، ألم تقل إن حيز التاريخ الصادق الصارم انقلب الي مسرح وربما كانت أرض الحياة حيث يبدو التناص واضحاً مع ظروف الحكم.

تبدأ مسرحية رجل القلعة تأبين سر محمد علي »بوان الباشا« بعمل حفل يقدم من خلالها مسرحية داخل المسرحية في محاولة لعلاج الباشا من لوثته العقلية تلك التي سببها خلافه مع عمر مكرم نقيب الأشراف. تشكل هذه المسرحية داخل المسرحية الأحداث الدرامية.

السلاموني بعد ذلك يركز علي جزئية مهمة هي من يحكم مصر محمد علي أم جاريته. فالأحداث التي استمرت خمسين عاماً. نصف قرن من الزمان وهي علاقة محمد علي بعمر مكرم الذي يمثل صوت الشعب ثم علاقة محمد علي بالجارية هيلانة التي تحولت علي مدي السنوات إلي مركز قوة بحيث أصبح يعود إليها في كل قرار مهم أو صغير.

إلا أن هذا لا ينفي أن محمد علي بسبب عبقريته أدار البلاد وكان في عصره بداية التنوير المكتمل.

أما المخرج تامر عبدالمنعم فقد تألق في واحد من أهم أعماله. أمسك بإيقاع مسرحي منضبط وأحكم قبضته علي نص موحي وعلي ممثلين أكفاء كل اختار دوره بقناعة وحب وصل إلي العمق وقد كان توفيق عبدالحميد في أعلي حالاته مندمجاً إلي حد العبقرية مع شخصية درامية أدخلتنا إلي عمق الحدث وكأننا نعيش في سنوات محمد علي بكل ما تحمل من لون ومعني ورائحة. ونافسه في الأداء أشرف طلبة الذي قلت كثيراً إنه يحتاج إلي النص الجاد والمخرج الكبير ليعاد تقديمه بطلاً قادراً علي تقديم خبرته وموهبته بصوته العميق وأدي تامر شاهين دور محروس بحنكة ودراية بمفردات الدراما ومعهم أجاد محمود زكي ومعتز السويفي وقدمت سامية عاطف دور هيلانة بدفء وقناعة وكذلك فاطمة محمد علي وماجدة مراد وياسر محمد علي وطارق كامل وزياد علي.

العرض حالة من المتعة والثقافة والكمال الدرامي، غير أن مشاهد »رجل القلعة« سيدرك أن أزمة محمد علي الحقيقية لم تكن في المحيطين به ولا في مغامراته وحكاياته مع العرافة والغيبات، لكنها كانت في التحدي الكبير الذي كان يواجه من الداخل من عمر مكرم ومن التحدي الخارجي من أوروبا وحملات التنوير.
tous les drois sont reserver par nrg.c.la ©